تمر ذكرى وفاة كوكب الشرق السيدة أم كلثوم ، مروراً يشوبه الكثير من التقصير، وإذّ ذاك لم يعد الأمر مرتبطاً بإهالة القداسة عليها ، بقدر ما جَنّ على هذا التقصير حالة من الإهمال غير المستحبّ لمنحنى صوتيّ في الغناء العربي ، كان له صدى كبيراً في إعادة الأصيل إلى جوهر هذا الغناء فضلاً على اللحن، بعد أن اكستهما التراجيع الصوفيّة والبحّة العثمانيّة ، التي اشتهرت بها منيرة المهديّة والقارئ مصطفى اسماعيل .
جاءت أم كلثوم كنوعٍ من التحديث الخلفي للغناء العربي، دون الاقتصار على الوقوف عند حدود الأغنيّة بصيغتها الكلاسيكيّة، وإنما حضّ ذلك التحديث على استخلاص نوتة عربيّة يمطّها التمدّد، وتتبعها موسيقى فيها لمسة غربيّة في قفزها الرشيق من تفصيل إلى آخر، على عكس الموسيقى العربيّة القديمة، التي مهرها النايّ بكثير من التوحّد النغمي، و أكمل العود تشجيّنها بشكل لا يسعى إلى التخفّف من أثقال البطء، ويستجلب دونه غزير الملل البشري في غالبه.
لكن الذي أوعز إلى نفسه حتى يتمكن من كسر هذا القالب الموسيقي المستورد والوافد إلى الغناء العربي، هو الشيخ أبو العلا عندما لحن لها أغنيّة "الصب تفضحه عيونك" في أوائل العشرينيات، وكان الافتتاح القرني الأكبر، باستلهام النغم العربي متخلصاً من زواحف التقليد العثماني، ذاك أن الشيخ أبو العلا، قد جعل الموسيقى مكملاً للحن والكلمة، في حين كان الغناء العثماني يفصل اللحن عن الموسيقى في صورة تشعر حيالها بأن الاقتطاع ناجز وجائز دون أن تختل الجملة اللحنيّة، رغم أن - على جاري المثال - هايدن المبسّط قياساً بموتسارت و باخ وبيتهوفن في رباعياته الوتريّة، يخلق ودّاً صراعياً غير معقول بين انتهاء بيانو وابتداء آخر، وهم أربعة آلات متحدة الحركة ومن نفس النوع (البيانو)، ومند ذاك الفتح الهايدنيّ ، لم ينجح الفصل الجامد بين الحركة واللحن في بنيّة واحدة إلى الآن، ثمّ انصرف الأمر إلى الغناء، الذي فضحه القصور العثماني عن استكمال الترادف بين اللحن و الموسيقى.
و لقد تطوّرت الأمزجة الخلال اللحنيّة، وافتك الغناء العربي ببركة الشيخ أبو العلا تماسكه الأصيل، وافتضّ حلوله في مصنفات نغميّة أخرى، فبات هذا غناء أصيل، وذاك مُحّدث وعصري ، ولا يجمع بينهما أيّ مكوّن هجين ينطلي على الذائقة المميِزة .
شكلت أم كلثوم حالة على فرادتها شكلاً مركباً من التكوين النفسي ، فهذه المرأة لم تستدرك بيئتها الصعيديّة بالشكل الذي تعارضه القاهرة الكوزموبوليتيّة، فقد أحدثت نفسها المرنة امتزاجاً سريعاً مع الكونيّة التي تدمغ القاهرة وقتذاك، فلم تجد في مزاجها اقبالاً على استعادة أصلها بالشكل الذي يعكس جورةً كبرى في نفسها، بلّ فجّرت في السلطانة منيرة المهديّة كل أسباب السخريّة من اندماج أم كلثوم في الحالة الجديدة ، لدى مشاهدتها لصورتها وهي قبالة بحر الإسكندرية في جلسة أرستقراطية مدروسة بعناية فطريّة مكيّنة، فغنّت أغنيتها الشهيرة " يا محلا الفسحة يا عيني على راس البر"، في تعالٍ برجوازي فاقع الكيديّة، غير أنه للمفارقة الساخرة، لحن الأغنيّة الذي ألفه "داوود حسني" بات أقرب بما لا يرقى إليه شك إلى لحن الشيخ أبو العلا، في مراجعة وثّابة وغير هيّابة لسقطات التلحين المنيري القديم.
ليس بعيداً عن هذا، نجد أم كلثوم على نقيض السيدة فيروز تماماً، إذ إنّ قيثارة بلاد الشام ، التي استفادت من تعويذة الرحابنة الناجحة في استجلاب اللحن الغربي إلى الغناء العربي، بيد أن فيروز جرّت "بدّونة" الكلمة الغنائيّة إلى عصريّة الأداء الصوتي، و لم يكن من الصعب قطعاً اكتشاف مدى "تريّف" غنائها بالشكل الذي يناقض الصيغة اللحنيّة، لاسيما الآلات الموسيقيّة، تحت مظروف كبير اسمه "الجاز الشرقي "، الذي قلّد فيه زياد الرحباني بعد ذلك بوقت يسير العازفة الأذربيجانيّة الكبيرة عزيزة مصطفى زادهْ .
خضعت أم كلثوم إلى دفق قاهري غير عادي، ساندهُ في ذلك تقبّلها النفسي لمرفقات الحياة العصريّة في ذلك الوقت، فالسيدة لم تكن بسيطة التشكيل على الإطلاق، وإنما استمدّت قوتها وسيطرتها وأحياناً ديكتاتوريّتها في التعامل النّصي واللحني معاً، من مقدرتها على التحرر من الأبوّة البيولوجيّة، فقد شغلت سريعاً شغور والدها، وألهمها مقدرة على تجاوز الامتثال إلى الأوامر، وأسّس فيها ذاك الإنسراح المديد تعقيداً عصبياً، دفع بها إلى الصياح في وجه محمـد القصبجي بعد أن أخفق في استرداد مجده الذي بلغ أوجه مع لحن "رق الحبيب"، ثم عدم اقتناعها تالياً بموهبة محمـد عبد الوهاب اللحنيّة، ما حدا بها نزولاً عند رغبة الرئيس المصري جمال عبد الناصر بإيعاز من عبد الوهاب شخصياً، إلى القبول بتلحين موسيقار الأجيال عشر أغاني فقط، وهنّ كل ما حصده التعاون بينهما، و يؤثر عن تلك الفترة أن الخلاف كان على أشده، ليس أقله تعديل أم كلثوم للحن " أنت عمري" أكثر من ثلاث مرات، بالإضافة إلى تغيير مفردة " شوقوني عينيك" إلى "رجعوني عينيك"، و ظل عبد الوهاب على حنقه من أم كلثوم يغني الثلاثة ألحان المُلغاة بمفردة "شوقوني" إلى أن رحل عن عالمنا ، حالفني الحظّ فاستمعت إلى أربع نسخ لحنيّة منها في البرنامج الإذاعي " عازف الليل" الذي كانت تعرضه الإذاعة التونسيّة في نهاية التسعينيّات، الذي يُعنى بصيّد النوادر اللحنيّة لمحمـد عبد الوهاب، وللحقّ كان تعديل أم كلثوم في النسخة المغنّاة المعروفة هو الأفضل قاطبةً، فأم كلثوم ملحنة أيضاً ، لحنت لنفسها أغنية " على عيني الهجر"، بالإضافة إلى بعض التقاطيع اللحنيّة الشاردة غنتها في قصر "عز الدين يكن" في ليلة الإسراء والمعراج ، حيث أعجب بها زكريا أحمد والشيخ أبو العلا في صباها .
لا يفوتنا أن نذكر بأن المقدرة اللحنيّة للفنان تظهر في حالة واحدة إذا لم يشتعل بالتلحين ، ممثلة على سبيل الحصر في مودود " الآه" و"يا ليل" .
ثم بعد ذلك بقليل، جاء رياض السنباطي فنقل الغناء العربي إلى أعلى مصافه، وأحدث الوثبة الكبرى في عالم التلحين، فاستحقّ إعجاب الست أم كلثوم، و ساعده على إبراز مواهبه التلحينيّة مساحة صوتها ، وتمسّكها بأصل اللحن، والاندراج البارع في مسايرة الموسيقى بـ" الآه" بغية من أجل تصحيح النوتة، ثم إحداث النشوة الطربيّة لدى الجمهور، ورغم أن السنباطي سقطَ في افتتاح أغنيّة " أراك عصي الدمع"، باستخدامه لآلة بيانو من نوع "الغراند" في توطئة لم تخدم على الإطلاق التقاسيم التي تليّها، علاوةً على أن آلة البيانو غربيّة الصوت والمنشأ ، فيما قصيدة " أراك عصي الدمع" عربيّة كلاسيكيّة تعود إلى العصر العباسي، وهي لأبي فراس الحمداني كما هو معروف، غير أن أم كلثوم سايرت السنباطي، فيما لم يرحمه النقاد وقتذاك، غير أن العزاء الأكبر كان العبقريّة التي تلت البيانو، وحجبت الافتتاح الغريب، وربما أعفته التجربة من تكرارها، وهو ما حدث فعلاً بعد ذلك ..
ما يُثبت شعور السنباطي باليتم بعد رحيل الست، هو أنه أقلع عن التلحين ردحاً قصيراً، إلى غاية اكتشاف موهبة لبنانيّة اسمها " هدى جبران" لم تعمّر في الغناء طويلاً، أو طواها النسيان سريعاً .
والحال أن التعمّق في حياة أم كلثوم يقود إلى كثير من التأمل، فهي المرأة التي سيطرت على الفن الذي تتخذه حرفةً، واستطاعت التمكن فيه وتوجيهه على النمط الذي ترتضيه هي، وبمفاهيمها هي، و بشروطها هي، ورغم الشدائد التي عكفت على حياتها بالكثير من التردّي، صنعت لاسمها عنواناً عريضاً و فارقاً.
بدا ليّ في ختام هذا الادراج المختصر، أن تنويهاً جميلاً ذكره المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد في كتابه " خارج المكان"، قال فيه " إنّ غوركي كان ينام نوماً أهنأ، عندما يعرف بأن تولستوي لا يزال حياً يرزق في هذا العالم" ومع حفظ الفارق لضرورة احترام المستوى والتصنيف ، جاز لكل محب للغناء العربي في شكله الأصيل والفكر في صيغته الرصيّنة والشعر في نصفه العميق، أن يتحسّس شيئاً من التقلقل والتهلهل النفسي، حينما يتذكر بمحض اليقين؛ أن عالم اليوم خالٍ من ثلاثيّة بشريّة محترمة، إدوارد سعيد في الفكر، ومحمود درويش في الشعر، وأم كلثوم في الغناء .